الاستدامة المجتمعية: المفهوم، الركائز، وأفضل الممارسات في العالم العربي

يشهد العالم العربي، بتاريخه العريق وثقافته الغنية، مرحلة تحولات عميقة تتشابك فيها الفرص مع التحديات. ففي خضم السعي نحو التنمية والازدهار، تبرز تحديات هيكلية مثل التغيرات المناخية، وندرة الموارد، والتحولات الديموغرافية، والضغوط الاقتصادية. هذه التحديات لا تهدد فقط استقرار المكتسبات الحالية، بل تلقي بظلالها على مستقبل الأجيال القادم. 

من هنا، لم يعد الحديث عن التنمية بمعزل عن الاستدامة ممكنًا. وتأتي الاستدامة المجتمعية لتشكل حجر الزاوية في هذا النموذج التنموي الجديد، فهي رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء مجتمعات قادرة على الصمود والنمو. إن دمج هذا المفهوم في صلب السياسات والممارسات اليومية، سواء على مستوى الحكومات أو القطاع الخاص أو المجتمع المدني، هو السبيل لضمان استقرار اجتماعي واقتصادي حقيقي، حيث يصبح الإنسان هو محور التنمية وغايتها. 

ما هي الاستدامة المجتمعية؟ تعريف وأبعاد

تُعرّف الاستدامة المجتمعية بأنها مجموعة الجهود والعمليات التي تدعم قدرة الأجيال الحالية والمستقبلية على بناء مجتمعات صحية وعادلة ومتماسكة. إنها تركز على “الناس” وكيفية تفاعلهم مع بعضهم البعض ومع بيئتهم، لضمان جودة حياة كريمة للجميع.

الفرق بين الاستدامة المجتمعية والتنمية المستدامة:

كثيرًا ما يتم الخلط بين المفهومين، ولكن يمكن تمييزهما كالتالي:

  • التنمية المستدامة: هي المظلة الأوسع التي تسعى لتلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية احتياجاتها. وهي تقوم على ثلاث ركائز أساسية متفاعلة: البيئية، الاقتصادية، والاجتماعية.
  • الاستدامة المجتمعية: هي إحدى هذه الركائز الثلاث، وتركز بشكل خاص على الجانب الإنساني والاجتماعي، مثل العدالة والمساواة والتعليم والصحة والمشاركة المجتمعية.

أبعاد الاستدامة وربطها بالمجتمع:

  1. البعد الاجتماعي: هو جوهر الاستدامة المجتمعية، ويهدف إلى الحفاظ على رأس المال الاجتماعي من خلال الاستثمار في الخدمات التي تشكل إطار المجتمع، ومكافحة الفقر وعدم المساواة.
  2. البعد الاقتصادي: يهدف إلى تحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص عمل لائقة، مع الاستخدام الفعال للموارد لضمان الربحية على المدى الطويل. يرتبط هذا البعد بالمجتمع من خلال توفير الاستقرار المادي الذي يمكن الأفراد من المشاركة بفعالية.
  3. البعد البيئي: يركز على حماية الموارد الطبيعية وتقليل البصمة الكربونية. ويرتبط بالمجتمع من خلال ضمان بيئة صحية وآمنة للعيش، وهو أساس الرفاه الإنساني. 

الركائز الأساسية للاستدامة المجتمعية:

تقوم الاستدامة المجتمعية على أسس متينة تضمن تماسك المجتمع وقدرته على التطور:

  • التعليم وتنمية القدرات البشرية: يُعد التعليم حجر الأساس لبناء مجتمعات مستدامة، فهو يزود الأفراد بالمعرفة والمهارات اللازمة للمشاركة الفعالة في المجتمع والاقتصاد.
  • العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص: لا يمكن لمجتمع أن يكون مستدامًا إذا كان يعاني من فجوات واسعة بين أفراده. تتطلب الاستدامة ضمان حصول الجميع على فرص متساوية في التعليم، والصحة، والعمل، والمشاركة السياسية.
  • حوكمة المؤسسات والعمل بشفافية: تساهم الحوكمة الرشيدة في بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وتضمن مساءلة صناع القرار، وهو أمر حيوي لتحقيق الأهداف التنموية.
  • حماية البيئة والموارد الطبيعية: إن صحة المجتمع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بصحة البيئة. فالمجتمعات المستدامة هي تلك التي تحترم بيئتها وتعمل على حمايتها للأجيال القادمة.
  • الشراكة المجتمعية الفاعلة: يتطلب تحقيق الاستدامة تضافر الجهود بين جميع مكونات المجتمع: الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والأفراد.

 أهمية الاستدامة المجتمعية في العالم العربي:

تكتسب الاستدامة المجتمعية أهمية خاصة في المنطقة العربية نظرًا للتحديات الفريدة التي تواجهها:

  • مواجهة البطالة والفقر: من خلال التركيز على التعليم النوعي وتنمية المهارات، يمكن خلق فرص عمل جديدة ومستدامة للشباب، مما يساهم في الحد من الفقر وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
  • تعزيز دور المرأة والشباب في التنمية: تمثل النساء والشباب نسبة كبيرة من سكان العالم العربي، وتمكينهم اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا هو مفتاح إطلاق إمكانات المنطقة الكاملة.
  • الحد من الهجرة والنزوح: تساهم الاستدامة المجتمعية في تحسين الظروف المعيشية وتوفير الأمل والفرص، مما يقلل من دوافع الهجرة والنزوح الناتجة عن الصراعات أو الظروف الاقتصادية الصعبة.

أمثلة لأفضل الممارسات في العالم العربي:

بدأت العديد من الدول العربية في تبني ممارسات الاستدامة المجتمعية، وهناك أمثلة ملهمة على ذلك:

  • مشاريع ناجحة من الخليج العربي:
  • مدينة مصدر في أبوظبي: تعد نموذجًا رائدًا للمدن المستدامة، حيث تستخدم التكنولوجيا المتقدمة لتقليل استهلاك الطاقة والمياه، وتعتمد على الطاقة المتجددة.
  • مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية في دبي: يُعد من أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم، ويهدف إلى توفير طاقة نظيفة وتقليل الانبعاثات الكربونية بشكل كبير.
  • مبادرة الشرق الأوسط الأخضر (السعودية): مبادرة إقليمية طموحة تهدف إلى زراعة مليارات الأشجار ومكافحة التغير المناخي، مما يعكس التزامًا بيئيًا واجتماعيًا واسع النطاق.
  • مبادرات عربية في التعليم المستدام:
    • مبادرة “مسارات” (سوريا): مبادرة تطوعية تعمل على توفير محتوى تعليمي مفتوح ومتاح للجميع، مما يساهم في تمكين الأفراد معرفيًا وتنمويًا.
    • مبادرة التعليم من أجل التنمية المستدامة (مصر): تهدف إلى ترسيخ مبادئ الاستدامة في المناهج والمؤسسات التعليمية، بالتعاون مع جهات دولية.
  • شراكات مجتمعية بين القطاعين العام والخاص:
    • تتزايد الشراكات في مجالات مثل تطوير البنية التحتية المستدامة، وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ودعم برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات التي تركز على التعليم والصحة والبيئة.

التحديات التي تواجه الاستدامة المجتمعية في المنطقة:

على الرغم من التقدم المُحرز، لا تزال هناك تحديات كبيرة تعترض طريق تحقيق الاستدامة المجتمعية في العالم العربي:

  • ضعف التمويل: لا تزال الفجوة التمويلية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة كبيرة في العديد من الدول العربية 
  • غياب البيانات الدقيقة: هناك نقص في البيانات الموثوقة حول العديد من المؤشرات الاجتماعية والبيئية، مما يجعل من الصعب قياس التقدم وتوجيه السياسات بفعالية.
  • التحديات الثقافية والمجتمعية: قد تواجه بعض المبادرات مقاومة للتغيير، مما يتطلب جهودًا كبيرة لزيادة الوعي وبناء القبول المجتمعي.
  • الصراعات وعدم الاستقرار: تشكل الصراعات والاضطرابات السياسية في بعض دول المنطقة عائقًا كبيرًا أمام أي جهود تنموية مستدامة. 

استراتيجيات تعزيز الاستدامة المجتمعية:

للتغلب على هذه التحديات، يمكن تبني مجموعة من الاستراتيجيات المتكاملة:

  • دور البحث العلمي والتحليل الميداني: يجب الاستثمار في الأبحاث التي توفر فهمًا عميقًا للسياقات المحلية وتساعد في تصميم حلول مبتكرة ومناسبة.
  • أهمية التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى: يجب أن تتبنى الحكومات رؤى طويلة الأمد، مثل رؤية السعودية 2030، التي تدمج الاستدامة في جميع جوانب التخطيط الوطني.
  • الاستثمار في التكنولوجيا والتحول الرقمي: يمكن للتكنولوجيا أن تساهم بشكل كبير في تحقيق أهداف الاستدامة، من خلال تحسين كفاءة استخدام الموارد، وتوفير التعليم عن بعد، وتعزيز المشاركة المجتمعية.
  • تعزيز الوعي والتثقيف: يُعد نشر الوعي بأهمية الاستدامة بين جميع فئات المجتمع خطوة أساسية لحشد الدعم وتحفيز المشاركة.

دور المؤسسات البحثية:

في مشهد تعزيز الاستدامة المجتمعية، تبرز المؤسسات البحثية كجسور حيّة بين النظرية والتطبيق، تجمع بين التحليل العلمي والفهم الميداني لتوجيه السياسات، وتحفيز الابتكار، وتعزيز الشراكات التي تصنع أثرًا مستدامًا.
هنا يأتي دور DAL، كبيت خبرة معرفي متخصص في الاستدامة المجتمعية، يوظّف الدراسات الدقيقة، وحلول البيانات، وبرامج التدريب المتقدمة لتصميم استراتيجيات محلية ملائمة، وإطلاق مبادرات قادرة على مواجهة التحديات الفعلية للمجتمعات العربية.
من خلال خبراتها، تمكّن DAL الجهات غير الربحية، والقطاع الخاص، وصنّاع القرار من الانتقال من الأفكار إلى الممارسات، ومن المبادرات المحدودة إلى النظم المستدامة، مستلهمة نماذج إقليمية وعالمية، ومكيّفة إياها مع الخصوصية المحلية.

خاتمة ملهمة: مسؤوليتنا المشتركة لمستقبل واعد

إن الاستدامة المجتمعية ليست ترفًا فكريًا أو خيارًا مؤجلاً، بل هي ضرورة حتمية لمستقبل العالم العربي. إنها دعوة مفتوحة للجميع، حكومات وشركات وأفراد، للعمل معًا بروح من المسؤولية المشتركة. فمن خلال الاستثمار في الإنسان، وحماية كوكبنا، وبناء مجتمعات عادلة وشاملة، يمكننا أن نضمن لأجيالنا القادمة إرثًا من الأمل والازدهار، ومستقبلًا يليق بتاريخنا وطموحاتنا.

Scroll to Top