الاستدامة والقوة الناعمة ! 

في رحاب عالمنا المعاصر، تتسابق الدول على صفقات التسلح حتى بلغت ميزانيات الدفاع في العام المنصرم ٩٠٠ مليار دولار، لو جرى دفع ربع هذا الرقم لتلاشت أغلب أزمات العالم البالغ عددها ٥٦ أزمة تعصف بالكوكب.

درجة الحيرة التي بلغها العالم نتيجة هذه التحديات الكبرى أدت لإضعاف منظوماته التي تحفظ السلم والأمن الدوليين وقد بات البحث عن خيارات بديلة هاجس الكثير من الدول والأقاليم بعد أن وصلنا إلى خيارات مسدودة وهو ما عبر عنه الأمين العام للأمم المتحدة في قمة المستقبل حين وجّه الدعوة لقادة العالم في سبتمبر ٢٠٢٤ وقال لهم بصوت واضح “لسنا على الطريق القويم، ولن نبلغ أهداف التنمية المستدامة في موعدها” !.

من بين الآفاق التي تعيد البوصلة إلى المسار “القويم” فكرة “القوة الناعمة” التي تتجاوز مفردات القوة التقليدية وتداعيات التوحش الرأسمالي، لتبلغ الأعماق في النفوس وكذلك العقول، تلك الطاقة الخفية التي تنبع من قلب العطاء وتنبض بالحكمة، والتي تجعل من الأوطان منارات جاذبة تتكامل مكوناتها دون أن تتآكل وتستثمر في مواردها دون أن تنهك حاضرها أو تهدر رصيدها.

في تقرير مؤشر القوة الناعمة العالمي لعام 2025 الذي صدر مؤخراً يؤكد ما نعرفه بالفطرة أن الدول التي تمتلك أرصدة من القوة الناعمة هي الأقدر على صياغة مستقبلها ومستقبل العالم .. إنها الدول التي تستثمر في الإنسان، وتؤمن بأن أهداف التنمية المستدامة ليست مجرد أرقام، بل هي قناعة وثقافة وممارسة، وهذا ما يفتح مسارات جديدة، لتحوّل إرثها الإنساني والعمراني إلى أسوار من الحماية الناعمة التي لا تكسر ولا تُقهر.

يُلخص تقرير مؤشر القوة الناعمة العالمي 2025 في منهجيته كيف تُقاس قدرة الدولة على التأثير في الآخرين من خلال الجاذبية والإقناع، ويعتمد على مسح عالمي لآراء أكثر من 170 ألف مشارك من 100 سوق حول العالم يقيس ثلاثة مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) وثمانية ركائز أساسية، أما المؤشرات فهي الشهرة (Familiarity)   يتناول مدى معرفة الجمهور بالدولة، والمؤشر الثاني يتمثل في السمعة (Reputation) الذي يتطرق إلى الانطباع العام الإيجابي أو السلبي عن الدولة، أما الثالث فهو التأثير (Influence) حيث يقيس مدى نفوذ الدولة في الشؤون العالمية.

ويُقيّم أداء الدولة في الركائز الثماني، التي تشمل الأعمال والتجارة (Business & Trade) حيث قوة الاقتصاد والمنتجات والعلامات التجارية، ثم الحوكمة (Governance) عن مدى استقرار الحكومة، والالتزام بالقانون، والنزاهة، بالإضافة إلى العلاقات الدولية (International Relations) ومدى فعالية الدبلوماسية، والعلاقات مع الدول الأخرى، والمساهمة في السلام.

 وعلى وقع عاصمة الثقافة والإعلام التي نعيشها هذا العام هناك ركيزة رابعة تتعلق بالثقافة والتراث  (Culture & Heritage)  من حيث جاذبية الثقافة، والتراث التاريخي، والمطبخ، والفنون، وكذلك ركيزة الإعلام والاتصال (Media & Communication) التي تتمثل في جودة الإعلام، والتغطية الإخبارية، ووجود القنوات الإعلامية الدولية، بالإضافة لركائز أخرى كالتعليم والعلوم (Education & Science)يقاس فيها مستوى التعليم العالي، وجودة الأبحاث العلمية، وسابع الركائز الناس والقيم (People & Values)  الذي يتناول فيه مدى ترحيب الشعب، وقيمه الأخلاقية، ومستوى المعيشة، وأخيراً المستقبل المستدام (Sustainable Future) عبر الاهتمام بالبيئة والخضرنة، والتطور التكنولوجي، والطاقة المتجددة.

لقد كان من أبرز النتائج العالمية لعام 2025 احتفاظ الولايات المتحدة الأمريكية بصدارة المركز الأول في المؤشر، على الرغم من تراجعها في بعض الركائز مثل الحوكمة والناس والقيم، وحققت الصين صعوداً وتقدماً ملحوظاً في ست من أصل ثماني ركائز، مما يعكس نجاح جهودها في تحسين صورتها الدولية، وتصدرت كوريا الجنوبية الدول الأسرع تقدماً وتحسناً في الأداء، تلتها السلفادور، لقد أكد التقرير الذي يجري تنشره سنوياً من وكالة Brand Finance دور القوة الناعمة في الأزمات أظهر التقرير أن الدول التي تتمتع بقوة ناعمة قوية تكون أكثر قدرة على مواجهة الأزمات العالمية بفعالية.

يمكن للدولة أن تستثمر إرثها وسماتها في صياغة استراتيجية متكاملة لتعزيز قوتها الناعمة ومن خلال تفعيل الدبلوماسية الإنسانية عبر التوثيق المنهجي وإنشاء منصات  رقمية موحدة لتوثيق المشاريع الخيرية والإنسانية تعرض تأثيرها الإيجابي على حياة المستفيدين، أو الترويج الدولي من خلال إعداد حملات إعلامية احترافية باللغات الأجنبية للتعريف بالدور الإيجابي أو الحضاري والإنساني، بالتعاون مع وسائل الإعلام العالمية، وكذلك الشراكات الاستراتيجية عبر ابتكارات لافتة مثل “منحة التصوير” التي بادر إليها صديقنا المبدع سامي الرميان أو بناء شراكات نوعية مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة واليونيسف وغيرها، لضمان الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة، وتعزيز مكانة الدولة كشريك موثوق به في العمل الدولي.

إن تعزيز الدبلوماسية الثقافية من خلال إطلاق برامج لتبادل الشباب والمهنيين بين الدول يزيد من رسوخ التفاهم الثقافي وتعريف العالم بالقيم السائدة، وكذلك المشاركة في المحافل الدولية مثل المعارض الفاعلة والمؤتمرات الثقافية الدولية، وعرض الفن الممزوج أصالة ومعاصرة، مما يساهم في إثراء الحوار الثقافي العالمي، وهذا يتزامن مع الاستثمار في الإعلام والاتصال باستراتيجية رقمية تضع خطة إعلامية رقمية تستهدف الجمهور العالمي، توظف وسائل التواصل الاجتماعي لنشر قصص النجاح وتستعين بالمؤثرين أو تتعاون مع الشخصيات العامة العالمية لزيارة الدولة وتغطي أنشطتها وحياتها الاجتماعية والثقافية وجهودها الإنسانية، مما يضمن وصول الرسالة إلى جماهير جديدة.

لو أردنا استخلاص فكرة أساسية مفادها أن تعزيز القوة الناعمة يتطلب رؤية متكاملة تجمع بين إرثنا الغني، واستثمارنا الذكي في الشباب وتفعيل دبلوماسيتنا الإنسانية والثقافية، يمكن أن تتحوّل جاذبية الدولة المحلية والإقليمية إلى قوة تأثير عالمية، وأن تساهم بفاعلية في بناء عالم أكثر سلاماً وتضامناً، تتجلى فيها الحكمة ومدّ جسور الود، لا على أساس المصالح الضيقة، بل على قيم الأخوة الإنسانية وفي هذا تكمن معاني الاستدامة، علينا أن نكون سفراء لأوطاننا وأخص بالدعوة شبابنا الواعد عليهم أن يحملوا هذه الراية ويسهموا في صياغة مقدرات المستقبل، وأن يكونوا مصدر فخر لأوطانهم في كل محفل، لنجعل من كل عمل وإنتاج، وكل مبادرة ومشروع، وكل كلمة طيبة، حلقة في استدامة القوة الناعمة.

Scroll to Top