بناء القدرات المؤسسية: من التدريب العابر إلى التمكين المستدام

في عالمٍ يتغير بوتيرة متسارعة، لم تعد المؤسسات قادرة على الاكتفاء ببرامج تدريبية متفرقة، فالتحدي الأكبر لم يعد إكساب الأفراد مهارة جديدة، بل إحداث تحول مؤسسي شامل يعيد تشكيل الثقافة والأنظمة والهياكل، بحيث تتحول المعرفة إلى قدرة مستدامة قادرة على الصمود والتكيف وصناعة الأثر.

هذا المقال يحاول تقديم رؤية شاملة لمسار بناء القدرات المؤسسية، نستعرض فيه الأبعاد النظرية والمستويات العملية، ثم ننتقل إلى الأطر والنماذج العالمية، وعدد من الحالات التطبيقية، قبل أن ننتهي إلى مسارات استراتيجية تساعد المؤسسات على التحول من التدريب العابر إلى التمكين المستدام.
أولاً: الإطار المفاهيمي لبناء القدرات المؤسسية
بداية سأتناول تعريف المفهوم وفق الأمم المتحدة، حيث يُقصد ببناء القدرات “عملية تطوير وتقوية المهارات والقدرات والإجراءات والموارد التي تحتاجها المنظمات والمجتمعات كي تحيا، وتتكيف، وتزدهر في عالم سريع التغير”، هذا التعريف يوضح أن الأمر لا يتعلق بحدث تدريبي مؤقت، بل بعملية مستمرة تُحدث تحولاً داخلياً في طريقة التفكير والتصرف، بما يضمن الاستمرارية والتجدد.
يأتي السؤال التالي ليحدد أبعاد القدرات التي نعنيها .. باختصار نتناول تحديداً المهارات الفردية مثل الكفاءات والمعارف التي يحملها الأفراد، والأنظمة والإجراءات في البنية التشغيلية التي تضبط العمل، بالإضافة إلى الثقافة المؤسسية في منظومة القيم التي تحدد طريقة التفكير واتخاذ القرار، وأخيراً الموارد مثل الأصول المالية والتقنية والبشرية اللازمة لدعم المسار.
ثانياً: مستويات بناء القدرات
بناء القدرات عملية متعددة المستويات، تتكامل فيما بينها فالمستوى الفردي الذي يتمثل في تطوير المهارات والمعارف من خلال التدريب وورش العمل والتوجيه، ومن الأمثلة: تدريب الموظفين على التحليل المالي أو إدارة المشاريع.
أما المستوى التنظيمي فيقصد به تحسين الهياكل، والإجراءات، والسياسات الداخلية ومن أمثلته: إعادة هيكلة الموارد البشرية، وتطوير أنظمة الحوكمة، وتعزيز ثقافة العمل الجماعي، أما المستوى البيئي الذي يتطرق إلى التفاعل مع السياق الخارجي (القوانين، السياسات، الشراكات) ومن أمثلته: بناء شبكات مع الحكومات والمانحين، والتأثير في السياسات العامة، وتعزيز التعاون القطاعي.
ثالثاً: من التدريب إلى التمكين المستدام
من المهم التمييز بين المفهومين فالتدريب محطة مؤقتة لرفع الكفاءة الفردية، أما التمكين المستدام فهو مسار مؤسسي يجعل المنظمة قادرة على إدارة عملياتها وقراراتها بشكل مستقل ودائم، وهذا يأخذنا إلى خصائص التمكين المستدام الذي يتميز بالاستقلالية والاعتماد على الذات، بالإضافة إلى القدرة على التكيف والابتكار، و الاستمرارية والنمو طويل الأمد، وكذلك المساءلة والشفافية.

رابعاً: الأطر والنماذج العالمية
USAID: ركز على القدرة التنظيمية والفنية والقدرة على التكيف، مع منهجية تقييم أولي وخطط وتنفيذ ومتابعة. ميزته الأساسية: الملكية المحلية والاستدامة.
INEE: يدعم القدرات الوطنية والمحلية، خصوصًا في التعليم وحماية الطفل، مع أدوات تقدير القدرات والتكلفة التشغيلية، لتعزيز التوطين.
McKinsey Capacity Assessment Grid: يقيم القدرات عبر سبعة مجالات رئيسية، مع مستويات معيارية لتحديد موقع المؤسسة والفجوات.
EFQM: إطار شامل لتحسين الجودة المؤسسية، يربط بين القيادة، الاستراتيجية، الموارد، العمليات، والنتائج، ويعزز ثقافة التحسين المستمر.
جدول مقارنة النماذج والأطر العالمية

التركيز الأساسيآلية التقييمنقاط القوةحدود/تحدياتالنموذج/الإطار
القدرة التنظيمية والفنيةتقييم أولي – خطط – تنفيذ – متابعةشمولية، استدامةتقني أكثر منه ثقافيUSAID
دعم القدرات الوطنية والمحليةأدوات تقدير القدرات والتكلفةتركيز على التوطينتركيز ضيق (التعليم)INEE
تقييم القدرات عبر 7 مجالاتشبكة تقييم معياريةوضوح مؤشرات الأداءيتطلب بيانات دقيقةMcKinsey CAG
تحسين الجودة الشاملةمصفوفة تقييم النضجربط القيادة بالنتائجمعقد ويحتاج مواردEFQM

جدول التحديات في مسار التمكين المستدام

الوصفالتأثيرأمثلةالتحدي
تجاهل تطوير الأنظمة والهياكلنتائج قصيرة الأمدتدريب دون تغيير مؤسسيالتركيز على المهارات التقنية
نقص الموارد والضوابط الماليةإدارة ضعيفة للمشاريعمؤسسة محلية تعانيضعف القدرات التشغيلية
رفض الأفراد الهياكل الجديدةإبطاء التحول المؤسسيرفض نظام رقمي جديدمقاومة التغيير
غياب خطة شاملةجهود مجزأةورش بلا رؤية طويلةنقص الأطر المنهجية

جدول المسارات الاستراتيجية لتعزيز التمكين المستدام

الإجراءات الرئيسيةالمخرجات المتوقعةأمثلة تطبيقيةالمسار الاستراتيجي
إدارة المشاريع، قياس الأثر، الاتصالقدرات داخلية متناميةوحدة قياس الأثر في مؤسسة خليجيةتأسيس وحدات دعم داخلية
حوكمة، موارد بشرية، إعادة هيكلةكفاءة واستقلاليةتحديث نظام الموارد البشريةتطوير الأنظمة والهياكل
بناء علاقات طويلة الأمدنقل المعرفة والخبرةشراكة مع منظمة دوليةالشراكات الاستراتيجية
دمج التكنولوجيا والابتكارمرونة وتحسين الخدماتنظام رقمي لإدارة المشاريعالتحول الرقمي والابتكار
قياس الأثر وتحليل النتائجتحسين مستمر ومساءلةتقارير دورية عن الأداءالرصد والتقييم

في الختام نؤكد على أن بناء القدرات المؤسسية رحلة تحول طويلة تتجاوز حدود التدريب، لتصبح إعادة تموضع مؤسسي يربط بين الفرد والتنظيم والبيئة. المؤسسة التي تسلك طريق التمكين المستدام تصبح أكثر قدرة على التعلم الذاتي، وإدارة مواردها، ومواجهة تحديات المستقبل بمرونة.
هنا يبرز دور DALcs.org: ليس مجرد مزود تدريبي، بل شريك استراتيجي يقدم التفكير المنهجي، والأطر العالمية، والحلول المتكاملة، لمؤسسات تطمح إلى أن يكون أثرها ممتدًا ومستدامًا.
القادة الذين يدركون أن النجاح يُقاس بعمق الأثر واستمراريته هم من يرسمون مستقبلًا أكثر وضوحًا وثباتًا لمؤسساتهم ومجتمعاتهم.

Scroll to Top