يشكل القطاع غير الربحي، المعروف أيضاً بالقطاع الثالث أو القطاع الأهلي، ركيزة أساسية في بناء المجتمعات الحديثة وتعزيز رفاهيتها. تتجاوز مهام هذا القطاع تقديم الخدمات الخيرية والإنسانية لتشمل التنمية الاجتماعية، وحماية البيئة، وتعزيز الثقافة، والدفاع عن حقوق الإنسان، وغيرها من القضايا الحيوية.
ومع تزايد تعقيد التحديات المجتمعية وتنوعها، يبرز تساؤل جوهري حول مدى قدرة هذا القطاع على مواكبة هذه التحديات وتحقيق أقصى تأثير ممكن، في هذا السياق، يطرح النقاش حول دور البحث العلمي في تعزيز الاستدامة المجتمعية وتطوير القطاع غير الربحي نفسه بقوة، هل يُعد البحث العلمي ترفاً يمكن الاستغناء عنه في ظل محدودية الموارد، أم أنه ضرورة استراتيجية لا غنى عنها لضمان فعالية واستدامة عمل هذه الجهات والمؤسسات؟
في هذا المقال سنعمل على دحض المخاوف المثارة حول تطبيق البحث العلمي في هذا القطاع، مؤكدين أن التغلب على هذه العقبات ممكن من خلال تبني استراتيجيات تعاونية وشراكات فعالة بين الأوساط الأكاديمية والمراكز البحثية والمنظمات غير الربحية والجهات المانحة، إن الاستثمار في البحث العلمي هو السبيل الأمثل لتمكين القطاع غير الربحي من مواجهة التحديات المعاصرة وتحقيق أثر مجتمعي مستدام.
أهمية البحث العلمي في القطاع غير الربحي:
يُعد البحث العلمي بمثابة المحرك الأساسي للتقدم في شتى المجالات، ولا يختلف القطاع غير الربحي عن غيره في حاجته الماسة إلى هذا المحرك لتعزيز فعاليته وتوسيع نطاق تأثيره، إن دمج المنهجية العلمية في عمل المنظمات غير الربحية يوفر لها أدوات قوية لتقييم برامجها، وتحديد الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات، وتطوير حلول مبتكرة للتحديات المعقدة، تتجلى أهمية البحث العلمي في القطاع غير الربحي في عدة جوانب رئيسية:
- تحسين اتخاذ القرار وتحديد الاحتياجات:
يُعد اتخاذ القرار المستنير حجر الزاوية في عمل أي منظمة تسعى لتحقيق أهدافها بكفاءة، في القطاع غير الربحي، حيث تكون الموارد غالباً محدودة والاحتياجات المجتمعية ضخمة، يصبح الاعتماد على البيانات والحقائق الموثوقة أمراً حيوياً، يوفر البحث العلمي، من خلال الدراسات المسحية والتحليلية، بيانات دقيقة حول التحديات الاجتماعية، والفئات المستهدفة، وفعالية التدخلات القائمة.
على سبيل المثال يمكن لبحوث علمية محددة أن تسهم في تحديد الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية، مما يسهل في تطوير البرامج والمبادرات اللازمة، هذا يضمن أن القرارات لا تستند إلى الافتراضات أو الخبرات الفردية فحسب، بل إلى فهم عميق وموضوعي للواقع، فالأبحاث الميدانية والتأصيلية والتطبيقية ضرورية للقطاع غير الربحي لبلورة الاحتياجات الممكنة والمتاحة.
- تعزيز الكفاءة والفعالية التشغيلية:
لا يقتصر دور البحث العلمي على تحديد المشكلات، بل يمتد ليشمل إيجاد أفضل السبل لمعالجتها، من خلال البحث التطبيقي، يمكن للمنظمات غير الربحية تقييم برامجها الحالية، وتحديد نقاط القوة والضعف فيها، ومن ثم تطوير استراتيجيات لتحسين الأداء. يساعد البحث في تحديد أفضل الممارسات في مجالات مثل إدارة المتطوعين، وجمع التبرعات، وتنفيذ المشاريع، مما يؤدي إلى استخدام أكثر كفاءة للموارد وزيادة في التأثير الاجتماعي، على سبيل المثال، يمكن للبحوث أن تكشف عن أساليب مبتكرة لتقليل التكاليف التشغيلية مع الحفاظ على جودة الخدمات، أو تحديد العوامل التي تزيد من مشاركة المستفيدين وفعالية البرامج، إن الحاجة إلى الأبحاث الميدانية والتأصيلية والتطبيقية هي حاجة ملحة للقطاع غير الربحي.
- دعم الابتكار والتكيف مع المتغيرات:
يواجه القطاع غير الربحي بيئة ديناميكية تتسم بالتغيرات المستمرة في الاحتياجات المجتمعية، والتقنيات المتاحة، والسياسات الحكومية، يوفر البحث العلمي منصة لاستكشاف حلول مبتكرة لهذه التحديات المتجددة، فهو يشجع على التفكير الإبداعي وتجربة مقاربات جديدة، مما يمكن المنظمات من التكيف بفعالية مع هذه التغيرات.
لتقريب الصورة أكثر يمكن للبحث أن يحدد كيف تستطيع التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي أو تحليلات البيانات الكبيرة أن تعزز من قدرة المنظمات على الوصول إلى الفئات المستهدفة أو تقديم خدماتها بشكل أكثر كفاءة، إن البحث العلمي ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة استراتيجية لبناء مستقبل أكثر ازدهاراً وابتكاراً.
- بناء الشراكات وتعزيز التكامل:
يمكن للبحث العلمي أن يكون بمثابة جسر يربط بين القطاع غير الربحي والقطاعين العام والخاص، مما يفتح آفاقاً جديدة للتعاون والشراكات الاستراتيجية، عندما تستند المنظمات غير الربحية إلى أدلة بحثية قوية، فإنها تكتسب مصداقية أكبر لدى الجهات الحكومية والشركات الخاصة والجهات المانحة، مما يسهل عملية جذب الدعم والتمويل.
كما أن البحث المشترك يمكن أن يوجه الجهود نحو أولويات مجتمعية مشتركة، مما يضمن تكامل الأدوار وتضافر الجهود بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص والقطاع غير الربحي، هذا التكامل يساهم في تحويل نتائج الأبحاث إلى منتجات وخدمات ملموسة، ويعزز من استدامة منظومة الابتكار الوطني.
- إثراء المعرفة وبناء القدرات:
يساهم البحث العلمي في إثراء المعرفة المتخصصة حول قضايا القطاع غير الربحي، مما يعود بالنفع على الأوساط الأكاديمية والممارسين على حد سواء، فهو يشجع طلاب الدراسات العليا والباحثين التركيز على التحديات والفرص في هذا القطاع، مما يؤدي إلى زيادة عدد الخبراء المتخصصين في هذا المجال.
كما أن نتائج الأبحاث توفر للمنظمات غير الربحية أدوات ومفاهيم جديدة لتعزيز قدراتها الداخلية، سواء في التخطيط الاستراتيجي، أو إدارة المشاريع، أو تقييم الأثر، هذا البناء المستمر للقدرات يضمن أن القطاع غير الربحي يظل قادراً على التطور والنمو، ويساهم في توطين المعرفة وتحويلها إلى قيمة مضافة تنعكس على حياة الإنسان وتنمية الأوطان.
التحديات والمخاوف أمام البحث العلمي في القطاع غير الربحي:
على الرغم من الأهمية المحورية للبحث العلمي في تطوير القطاع غير الربحي، إلا أن هناك عدداً من التحديات والمخاوف التي غالباً ما تُثار عند مناقشة دمج البحث العلمي بشكل أعمق في هذا القطاع، هذه التحديات وإن كانت حقيقية إلا أنها لا تقلل من القيمة الاستراتيجية للبحث العلمي، بل تستدعي مقاربات وحلول مبتكرة للتغلب عليها، فيما يلي أبرز هذه التحديات وكيف يمكن التعامل معها:
- الفجوة بين البحث الأكاديمي والتطبيق العملي:
إحدى المخاوف الرئيسية هي أن الأبحاث التي تنتجها الأوساط الأكاديمية قد تكون نظرية بحتة، ولا تلبي بالضرورة الاحتياجات العملية والميدانية للمنظمات غير الربحية، قد يرى البعض أن لغة البحث الأكاديمي معقدة، وأن نتائجه قد لا تكون قابلة للتطبيق المباشر في سياقات العمل اليومي للمنظمات، مما يؤدي إلى شعور بعدم الجدوى من الاستثمار في هذا النوع من الأنشطة، هذا التحدي يبرز الحاجة إلى أبحاث تلامس الأولويات البحثية التي تسهم في مزيد من انتعاش عمل القطاع.
يمكننا ردم هذه الفجوة بشكل فعال من خلال تعزيز آليات التعاون والشراكة بين الجامعات ومراكز الأبحاث والمنظمات غير الربحية، يجب إشراك المنظمات غير الربحية في مراحل تحديد أولويات البحث وتصميم الدراسات، لضمان أن تكون الأسئلة البحثية ذات صلة مباشرة بالتحديات التي يعايشها القطاع كما توصي الدراسات، فإن إشراك أصحاب المصلحة والخبراء في القطاع غير الربحي في المجموعات البحثية للجامعات يضمن أن تكون مخرجات البحث موجهة نحو خدمة احتياجات القطاع، بالإضافة إلى ذلك يمكن تطوير آليات لنقل المعرفة وتبسيط نتائج الأبحاث لتكون أكثر قابلية للفهم والتطبيق من قبل الممارسين.
- محدودية التمويل والدعم:
يُعد التمويل تحدياً كبيراً للعديد من المنظمات غير الربحية، وقد يُنظر إلى تخصيص الموارد للبحث العلمي على أنه رفاهية لا يمكن تحملها في ظل الأولويات الملحة الأخرى مثل تقديم الخدمات المباشرة للمستفيدين، قد يواجه البحث العلمي في القطاع غير الربحي تحديات تتعلق بالتمويل الكافي والدعم المؤسسي، مما يحد من نطاق وعمق الأبحاث الممكنة.
على الرغم من أن التمويل يمثل تحدياً، إلا أن الاستثمار في البحث العلمي يجب أن يُنظر إليه على أنه استثمار استراتيجي طويل الأجل يعود بفوائد كبيرة على المنظمة والقطاع ككل، يمكن التغلب على هذا التحدي من خلال تنويع مصادر التمويل، ودعوة الجهات المانحة لدعم الأبحاث والدراسات المتعلقة بالقطاع غير الربحي في الجامعات، كما يمكن إقامة شراكات تمويلية بين القطاع غير الربحي والقطاع الخاص والجهات الحكومية، حيث يساهم كل طرف وفقاً لقدراته ومصالحه، مما يعزز من استدامة منظومة الابتكار الوطني.
- نقص الكوادر البحثية المتخصصة:
قد لا تتوفر دائماً الكوادر البحثية المتخصصة التي تمتلك فهماً عميقاً لكل من المنهجية العلمية وطبيعة عمل القطاع غير الربحي، هذا النقص قد يؤثر على جودة الأبحاث وكميتها، ويجعل من الصعب على المنظمات غير الربحية إجراء أبحاث داخلية أو الاستفادة القصوى من الأبحاث الخارجية.
يمكن معالجة هذا النقص من خلال الاستثمار في بناء القدرات البشرية، يجب على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية إضافة برامج متخصصة في الدراسات العليا تركز على قضايا القطاع غير الربحي، مما يشجع طلاب الدراسات العليا والباحثين على التركيز على هذا المجال، كما يمكن تحفيز الباحثين في الجامعات وتفعيل دورهم في تنفيذ الدراسات التي تخدم القطاع غير الربحي، بالإضافة إلى ذلك يمكن للمنظمات غير الربحية الاستفادة من برامج التدريب وورش العمل لبناء قدرات موظفيها في مجال البحث والتحليل.
- صعوبة قياس الأثر الاجتماعي:
غالباً ما يكون قياس الأثر الاجتماعي للبرامج والتدخلات في القطاع غير الربحي أمراً معقداً بطبيعته، وقد يرى البعض أن قياس الأثر المباشر للبحوث العلمية على التنمية الاجتماعية أكثر صعوبة، مما يجعل تبرير الاستثمار فيها تحدياً.
على الرغم من تعقيد قياس الأثر، إلا أنه ليس مستحيلاً يمكن تطوير مؤشرات أداء واضحة وأطر تقييم قوية تساعد في تتبع وقياس الأثر الناتج عن الأبحاث العلمية، هذا يتطلب تحديد أهداف قابلة للقياس للبحث، وتطوير أدوات جمع البيانات المناسبة، وتحليل النتائج بشكل منهجي، إن التركيز على البحوث الاستراتيجية التي تخدم القطاع غير الربحي بالتعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث يمكن أن يسهل عملية قياس الأثر، كما أن إظهار القيمة المضافة للبحث العلمي من خلال قصص النجاح ودراسات الحالة يمكن أن يساعد في تبرير الاستثمار فيه.
التوصيات والتوجهات المستقبلية:
لتحقيق أقصى استفادة من البحث العلمي في تطوير القطاع غير الربحي والتغلب على التحديات المذكورة، لا بد من تبني مجموعة من التوصيات والتوجهات المستقبلية التي تعزز من تكامل البحث مع الممارسة وتضمن استدامته:
تعزيز التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث والقطاع غير الربحي:
يجب بناء جسور قوية بين الأوساط الأكاديمية والمنظمات المجتمعية، ويتحقق ذلك عبر شراكات بحثية رسمية، وبرامج مشتركة تعالج قضايا حقيقية، وورش عمل تجمع الباحثين بالممارسين لتبادل الخبرات وتحديد الأولويات. وهنا يبرز دور مؤسسات بحثية متخصصة مثل DAL، التي تعمل كحلقة وصل بين المعرفة النظرية واحتياجات الواقع، من خلال إنتاج أبحاث تطبيقية، وتسهيل منصات تشاركية تجمع الفاعلين من مختلف القطاعات لصياغة حلول قابلة للتنفيذ.
تخصيص ميزانيات للبحث والتطوير داخل المنظمات غير الربحية:
يجب على المنظمات غير الربحية أن تدرك أن البحث العلمي ليس نشاطاً هامشياً، بل هو استثمار ضروري. يتطلب ذلك تخصيص جزء من ميزانياتها لأنشطة البحث والتطوير، حتى لو كانت مبالغ رمزية في البداية، يمكن أن يشمل ذلك توظيف باحثين متخصصين، أو التعاقد مع جهات بحثية خارجية، أو تخصيص موارد لتدريب الموظفين على مهارات البحث الأساسية، إن دعوة الجهات المانحة لدعم الأبحاث والدراسات المتعلقة بالقطاع غير الربحي في الجامعات أمر بالغ الأهمية.
تطوير برامج تدريبية للباحثين والعاملين في القطاع غير الربحي:
لردم الفجوة في الكوادر البحثية، نحتاج إلى تطوير برامج تدريبية متخصصة تستهدف كلاً من الباحثين الأكاديميين والعاملين في القطاع غير الربحي، هذه البرامج يمكن أن تركز على المنهجيات البحثية ذات الصلة بالقطاع، وكيفية ترجمة نتائج الأبحاث إلى سياسات وبرامج قابلة للتطبيق، كما يمكن أن تساعد في بناء قدرات العاملين في المنظمات على إجراء أبحاثهم الخاصة أو فهم وتطبيق الأبحاث المنشورة، إضافة برامج متخصصة في الدراسات العليا في الجامعات للعناية بدراسات القطاع غير الربحي سيساهم في ذلك.
إنشاء منصات لتبادل المعرفة والنتائج البحثية:
يجب تسهيل الوصول إلى نتائج الأبحاث والمعرفة المنتجة، يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء منصات رقمية أو قواعد بيانات مركزية تجمع الأبحاث والدراسات المتعلقة بالقطاع غير الربحي، وتجعلها متاحة للجميع، كما يمكن تشجيع نشر الأبحاث في مجلات علمية متخصصة ومتاحة للجمهور، وتنظيم فعاليات لتقديم النتائج البحثية بطرق مبسطة ومفهومة للممارسين، مع ضرورة إعادة هذه الدراسة كل ثلاث سنوات لتحديث الأولويات.
في الختام، يتضح من مجمل ما استعرضناه أن البحث العلمي هو العمود الفقري للعمل الخيري، والذي يحدد اتجاهاته ويكشف أثره الحقيقي، وقد أثبتت التجارب العالمية والإقليمية على السواء أن المؤسسات التي تبني قراراتها على البحث، قادرة على تجاوز التحديات، وتعظيم مواردها، وتحقيق أثر اجتماعي قابل للقياس، وهنا يبرز دور مؤسسات وسيطة متخصصة مثل DAL لردم الفجوة بين التنظير والممارسة، التي لا تكتفي بإنتاج المعرفة أو نقلها، بل تعمل على ترجمتها إلى سياسات عملية وأدوات قياس ومنهجيات واضحة يمكن للقطاع غير الربحي تبنيها مباشرة، إذا كنت من قادة المبادرات أو المؤسسات وتسعى لأن يرتقي عملك من مستوى “تنفيذ البرامج” إلى “تحقيق الأثر”، فإن DAL هي شريكك الأمثل لصياغة هذا التحول.




أحدث التعليقات