رغم كثرة المبادرات الخيرية والمجتمعية التي تُموَّل بسخاء وتستنزف جهدًا ووقتًا، يبقى السؤال حاضرًا: لماذا لا ينعكس كل هذا العطاء على حياة الناس بتغيّر ملموس؟ كثير من المشاريع تُنفَّذ بحماس، وتُوثَّق بالصور والأرقام، لكن عند العودة إلى الميدان، نجد أن الواقع لم يتبدل كما كنا نأمل. هنا يظهر جوهر المسألة، البرامج لا تكفي إن لم تُقَس نتائجها، والأنشطة لا تعني شيئًا إن لم تُترجم إلى أثر اجتماعي حقيقي.
في هذه المقالة، سنستعرض المنهجيات والأدوات الرئيسية لتقييم المبادرات المجتمعية، مع التركيز على كيفية تطبيقها عمليًا، لمساعدتك في فهم كيف يمكن أن يصبح القياس جزءًا أساسيًا من نجاح مبادراتك..
ما هو قياس الأثر الاجتماعي؟ وكيف نشأ وتطور
يُعرَّف الأثر الاجتماعي بأنه جملة التغييرات التي يحدثها أي برنامج أو مبادرة أو تدخل مجتمعي في حياة الأفراد والمجتمعات. هذه التغييرات قد تكون، إيجابية أو سلبية؛ فبعض البرامج تحقق تحسينًا في جودة الحياة، بينما قد تترك آثارًا غير مقصودة تؤدي إلى نتائج عكسية. مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ قد يظهر الأثر على المستفيدين الأساسيين من المبادرة، أو على فئات محيطة بهم (مثل أسرهم أو المجتمع الأوسع). مقصودة أو غير مقصودة؛ ليس كل أثر يتحقق نابعًا من أهداف البرنامج، إذ قد تنشأ نتائج لم تكن في الحسبان.
وقد ظهر مفهوم الأثر الاجتماعي تاريخيًا استجابةً للتساؤلات حول فعالية العمل الخيري والإنساني. فمع اتساع حجم التمويل الموجَّه للمبادرات غير الربحية منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأ الباحثون وصانعو السياسات يدركون أن قياس الأنشطة أو حجم الإنفاق لا يكفي للحكم على نجاح البرامج. كانت الحاجة ملحّة إلى أداة تكشف: ما الذي تغيّر فعليًا في حياة الناس؟
تطوّر المفهوم تدريجيًا من مجرد رصد للنتائج الظاهرة إلى منظومة متكاملة تشمل أدوات كمية وكيفية، ونماذج تحليل مثل نظرية التغيير (Theory of Change) والعائد الاجتماعي على الاستثمار (SROI)، وصولًا إلى المنهجيات الحديثة التي تدمج بين العلوم الاجتماعية والاقتصادية والتقنيات الرقمية. واليوم يُنظر إلى قياس الأثر الاجتماعي باعتباره عنصرًا جوهريًا للحوكمة الرشيدة، ولضمان أن يتحول العطاء إلى قيمة ملموسة ومستدامة.
المنهجيات الرئيسية للقياس:
الآن، دعنا نغوص في المنهجيات الرئيسية، ونذكر منها:
- نظرية التغيير (Theory of Change) / نموذج المنطق: (Logic Model)
تُعَدّ من أكثر المنهجيات استخدامًا لقياس الأثر الاجتماعي، إذ تقوم على رسم خريطة واضحة للعلاقة السببية بين المدخلات (الموارد المستثمرة)، والمخرجات (النشاطات والبرامج المنفذة)، والنتائج (التغييرات الفعلية على الأفراد والمجتمع). ما يميز هذه المنهجية أنها لا تكتفي برسم الخطوات، بل تكشف الافتراضات الكامنة خلفها، وتُحدد المؤشرات التي يمكن من خلالها متابعة التقدم. يمكن أن نرى فعاليتها في مبادرات مجتمعية متعددة. على سبيل المثال: في برنامج لتحسين الصحة، تُظهر المنهجية كيف أن توزيع الأدوية (مدخلات) يؤدي إلى ورش توعية (مخرجات) والتي تُسهم في انخفاض معدلات الأمراض (نتيجة). وفي مبادرة لتمكين الشباب، يمكنها أن توضح كيف تتحول ورش التدريب (مخرجات) إلى زيادة فرص التوظيف وتحسين سبل العيش (نتائج).
.
- العائد الاجتماعي على الاستثمار :(SROI)
تُعَدّ منهجية SROI من أبرز الأدوات التي تُحوّل النتائج الاجتماعية والبيئية إلى قيم مالية قابلة للقياس، بحيث تُمكّن صانعي القرار من معرفة، كم يساوي كل ريال أو دولار يتم استثماره من أثر اجتماعي ملموس. قوتها الرئيسة تكمن في أنها تُبسّط التواصل مع المانحين وأصحاب المصلحة بلغة الأرقام، استُخدمت هذه المنهجية في المملكة العربية السعودية لتقييم برامج دعم أطفال التوحّد، وأظهرت النتائج أن الاستثمار في هذه البرامج لم يحسّن حياة الأطفال فحسب، بل انعكس إيجابًا على رفاهية الأسرة وتقليل الأعباء الاقتصادية. وفي مثال آخر، في مشروع بيئي مجتمعي، يمكن حساب قيمة تقليل التلوث من خلال تقدير انخفاض تكاليف الرعاية الصحية الناتجة عن تحسين جودة الهواء.
- المنهجيات الكمية: التجارب العشوائية (RCTs) والفرق في الفرق (Difference-in-Differences)
تُعَدّ هذه المنهجيات من أقوى الأدوات العلمية لإثبات العلاقة السببية بين التدخل والنتائج. ففي التجارب العشوائية (RCTs)، يتم توزيع المستفيدين بشكل عشوائي بين مجموعة تتلقى التدخل ومجموعة لا تتلقاه (مجموعة تحكم)، ثم مقارنة النتائج بينهما.
أما منهجية الفرق في الفرق (DiD)، فتعتمد على مقارنة التغيرات بمرور الوقت بين مجموعات متدخلة وأخرى غير متدخلة، مما يتيح تقدير الأثر بدقة أكبر. تكمن قوة هذه المناهج في الصرامة العلمية، وهو ما يجعلها مرجعًا موثوقًا في التقارير الرسمية وصياغة السياسات. فهي قادرة على الإجابة بثقة عن السؤال: “هل كان هذا التغيير نتيجة للتدخل، أم لظروف أخرى، فمثلًا: يمكن لـ RCTs أن تقيس أثر الدعم المالي المباشر بمقارنة القرى التي تلقت المساعدة مع قرى مشابهة لم تتلقَ أي دعم.
- المنهجيات الكيفية والمشاركة:
تشمل دراسات الحالات والمقابلات لفهم السياقات. قوتها في الغنى العاطفي والسياقي، مما يلتقط التغييرات غير الكمية مثل الثقة المجتمعية. ضعفها في عدم الكمية، مما يجعلها أقل إقناعًا للمانحين الذين يفضلون الأرقام، وتحتاج إلى مهارات تحليل عالية. تطبيقها في المبادرات المجتمعية يكمل الطرق الكمية، مثل في فهم تأثير برنامج محلي من خلال قصص المستفيدين. مثال: في مشروع تمكين نساء، تستخدم المقابلات لوصف كيف غيرت الدورات شعورهن بالاستقلال.
الأدوات والمؤشرات للتقييم:
إذا كانت المنهجيات بمثابة الخريطة التي توضّح مسار التغيير، فإن الأدوات هي “صندوق العدة” الذي يساعد على قياس كل خطوة على هذا الطريق.
- أدوات جمع البيانات: تشمل الاستبيانات، المقابلات المعمقة، مجموعات التركيز، والسجلات الإدارية. ولضمان الموثوقية، يُوصى باستخدام ما يُعرف بـ “تثليث البيانات”، أي الجمع بين أكثر من مصدر للبيانات لتقليل التحيز وتقديم صورة أدق.
- إطارات التقارير والمؤشرات العالمية: مثل IRIS+ الذي يوفر مجموعة قياسية من المؤشرات المرتبطة بأهداف التنمية المستدامة (SDGs)، أو إطار GRI الذي يركز على الإفصاح عن الجوانب البيئية والاجتماعية. هذه الأطر تساعد على تحويل مفاهيم مثل “مستوى الرفاهية” أو “معدل الفقر” إلى أرقام قابلة للمقارنة.
- الأدوات التقنية: هناك برمجيات حديثة مثل Sopact التي تُحلل البيانات المعقدة، أو SAMforSE التي تُتيح للمنظمات إجراء تقييم ذاتي مبسط. كما توجد قوالب جاهزة مجانية، مثل تلك المتاحة في أدلة SROI، يمكن تكييفها بسهولة مع المبادرات المحلية.
لتقريب الصورة، تخيّل منظمة تعمل على برنامج لتمكين النساء. باستخدام استبيان بسيط، يمكن قياس زيادة الثقة بالنفس لدى المستفيدات بعد المشاركة في البرنامج. وعند تحليل هذه الإجابات عبر أدوات تقنية وربطها بإطارات المؤشرات، تتحول الملاحظات الفردية إلى بيانات قابلة للقياس، تُظهر بوضوح مدى نجاح البرنامج وتأثيره.
خطوات عملية لقياس الأثر:
الآن، دعنا نجعل الأمر عمليًا، قياس الأثر الاجتماعي ليس مجرد جمع بيانات، بل هو عملية منظمة تبدأ من التخطيط وتنتهي بالتحسين المستمر. هذه الخطوات تضمن أن تكون المبادرة موجهة نحو تحقيق أهدافها بفعالية، مع التركيز على إشراك المستفيدين وتحويل البيانات إلى قرارات استراتيجية. دعني أشرح كل خطوة مع أمثلة بسيطة لتوضيح كيف يمكن تطبيقها في مبادرة مجتمعية.
- التخطيط وتحديد الأهداف والمستفيدين: تبدأ العملية بتحديد الأهداف الواضحة، المستفيدين المستهدفين، والمؤشرات التي ستقيس التغيير، مع إشراك أصحاب المصلحة منذ البداية لضمان الملاءمة. هذه الخطوة تشبه وضع أساس قوي لمبنى. على سبيل المثال، في مبادرة لتحسين التعليم الريفي، قد تحدد هدفًا مثل “زيادة معدل الالتحاق بالمدارس بنسبة 20%”، وتختار مؤشرات مثل عدد الطلاب المسجلين.
- جمع وتحليل البيانات: تتضمن هذه الخطوة جمع البيانات باستخدام طرق كمية (مثل الإحصائيات) وكيفية (مثل تحليل القصص)، مع التركيز على إثبات السببية من خلال مقارنات مثل مجموعات التحكم. على سبيل المثال، في برنامج تدريب مهني، يمكن جمع بيانات كمية (نسبة التوظيف بعد التدريب) وكيفية (روايات المستفيدين عن تحسين ثقتهم)، مع تحليل البيانات لتجنب التحيز باستخدام أدوات مثل SPSS أو تحليل موضوعي.
- وضع التقارير والاتصال بالنتائج: بعد جمع البيانات، تأتي مرحلة إعداد تقارير شفافة تتضمن لوحات تحكم (dashboards) لعرض الأرقام، وروايات قصصية لإضفاء الطابع الإنساني على النتائج، مما يسهل التواصل مع المانحين والمجتمع.
- التحسين المستمر والمراقبة: تتطلب هذه الخطوة مراقبة دورية للنتائج وتعديل الاستراتيجيات بناءً على البيانات، لضمان استمرارية التأثير فمثلًا إذا أظهرت البيانات أن برنامجًا لتعليم الكبار لم يحقق معدلات حضور متوقعة، يمكن تعديل مواعيد الجلسات أو إضافة حوافز بناءً على تعليقات المستفيدين.
تحديات قياس الأثر المجتمعي:
قياس الأثر ليس بالأمر السهل، دعنا نستعرض التحديات الرئيسية في قياس الأثر الاجتماعي للمبادرات المجتمعية وكيفية التغلب عليها:
- عدم التوحيد في المعايير والمنهجيات: يفتقر قياس الأثر الاجتماعي إلى معايير موحدة عالميًا، مما يجعل المقارنة بين المنظمات أو الصناعات صعبة. هذا يؤثر على المنظمات ذات البرامج الأقل نضجًا، حيث لا توجد إرشادات واضحة، ويؤدي إلى عدم دقة في البيانات أو صعوبة في التقييم الموضوع، للتغلب على هذا التحدي، يمكن اعتماد أطر قياس مرنة مثل Theory of Change أو SROI، وتطوير مؤشرات داخلية متوافقة مع أهداف المنظمة، مع مشاركة الخبراء والمستفيدين لضمان التناسق والملاءمة.
- صعوبة الكمية للقضايا الاجتماعية غير الملموسة: من الصعب تحويل التأثيرات مثل الرفاهية النفسية أو الثقافة الشاملة إلى أرقام مالية أو كمية، خاصة في البرامج طويلة الأمد حيث تتداخل العوامل الخارجية. هذا يثير تساؤلات حول كيفية التواصل مع المانحين. في هذه الحالة يمكن استخدام مزيج من البيانات الكمية والكيفية، مثل استبيانات القياس النفسي، ومقابلات وقصص شخصية، لتحويل النتائج غير الملموسة إلى أدلة ملموسة تدعم القرارات والتقارير.
- • التحديات التعريفية والمفاهيمية في تحديد التدخلات والنتائج: المبادرات المجتمعية معقدة، مع تدخلات متعددة تتغير مع الوقت، مما يصعب تحديد “التدخل” أو النتائج (فردية أم مجتمعية). كما أن التسربات (spillovers) مثل تأثير برنامج على غير المشاركين تعقد التقييم. يمكن رسم مسارات تأثير واضحة لكل تدخل، وتحديد النتائج قصيرة وطويلة المدى، واستخدام طرق تحليل مرنة تأخذ في الاعتبار التأثيرات المباشرة وغير المباشرة، مع توثيق الفرضيات والتغيرات خلال فترة التنفيذ.
- نقص الموارد والقدرات: تعاني العديد من المنظمات الصغيرة من محدودية البيانات والتمويل المرن، ما يعيق التقييم طويل الأمد. كما يؤدي دوران الموظفين إلى تعطيل استمرارية متابعة النتائج. لتجاوز هذا التحدي يمكن التركيز على بناء قدرات الفريق في جمع وتحليل البيانات، واستخدام أدوات تقنية منخفضة التكلفة، والشراكة مع منظمات أخرى لتبادل الموارد والخبرات، بالإضافة إلى التخطيط لاستدامة التقييم بغض النظر عن تغييرات الموظفين.
في النهاية، يبقى قياس الأثر الاجتماعي حجر الزاوية الذي يحدد إن كانت المبادرات المجتمعية مجرد أنشطة عابرة، أم أنها بالفعل تصنع فارقًا عميقًا ومستدامًا في حياة الناس. وهنا يأتي دور DAL، التي جعلت من القياس ثقافةً لا إجراءً ثانويًا؛ ومن الأثر بوصلةً توجه كل خطوة نحو استدامة أعمق. إذا كنت تسعى إلى أن تتحول برامجك من جهود مبعثرة إلى قيمة ملموسة تُحدث فرقًا حقيقيًا، فدعنا نرافقك في رسم هذا المسار. تواصل مع DAL اليوم، ودعنا نساعدك في بناء منهجية قياس تُحوّل مبادراتك إلى أثرٍ يُرى ويُحسّ.




أحدث التعليقات