لم تكن تلك الزيارة عادية، ولا هي من النوع الذي يُسجَّل في مفكرة الأيام ثم يطويه النسيان. كانت رحلة مختلفة إلى مؤسسة صاعدة، وكنتُ أحسب في بدايتها أنني سأدخل إلى مكاتب حديثة الطلاء، وأرى بعض الأوراق المصفوفة على طاولات لامعة، وأسمع حديثًا تقليديًا عن مشاريع لم تكتمل بعد. غير أنّ ما شهدته كان أعمق بكثير من جدران ومكاتب. لقد وجدت نفسي أمام رؤية متماسكة، أمام بيت خبرة يتخلق من رحم الفكرة، وأمام أربعة أركان ترفع البنيان وكأنها تكتب فصلًا جديدًا في سجل الريادة المؤسسية.
أربع تاءات، نُسجت بعناية، فكانت كأركان بيت أو كأوتار رباعية في آلة موسيقية كبرى: الاستشارات، الدراسات، القدرات، المبادرات. لم تكن هذه التاءات مجرد عناوين فرعية في وثيقة تعريفية، بل كانت أشبه بالدم الذي يتدفق في شرايين المؤسسة، يوزع الحياة على جسدها المتنامي. كل تاء تنطق بذاتها، لكنها لا تكتمل إلا بالأخرى. فالاستشارات هي البوصلة التي توجه، والدراسات هي العقل الذي يحلل ويستشرف، والقدرات هي الذراع التي تنفذ وتنجز، والمبادرات هي القلب الذي يضخ الحماسة والإبداع. وحين تجتمع البوصلة والعقل والذراع والقلب، يغدو البيت بيت خبراء حقيقي، لا يكتفي بملاحظة الاتجاه بل يصنعه، ولا يقف عند حدود الفكرة بل يحولها إلى واقع، ولا يرضى أن يكون تابعًا بل يسعى أن يكون رافعة للمؤسسات الأخرى، مُلهِمًا ومُعينًا.
لقد ذكّرني هذا المشهد بما قاله ابن خلدون عن العمران البشري حين عدّه ثمرة التآزر بين الفكر والعمل، بين السياسة والاجتماع والاقتصاد. ولعل هذه المؤسسة الصاعدة أدركت بوعيٍ عميق أن التشتت يبدد الجهود، وأن التكامل هو السبيل الوحيد لصناعة المستقبل. ومن هنا جاءت هذه الأربع متشابكة لا تنفصل، كأنها أعمدة بيت واحد، إذا مال واحد منها اختل التوازن، وإذا اعتدل الأربعة ارتفع السقف شامخًا.
في الممرات، لم تكن الخطوات عابرة. كان ثمة شعور يملأ المكان بأن كل تفصيلة محسوبة، وأن اتجاه البوصلة ليس وليد ارتجال، بل نتاج وعي متراكم ورغبة في الاستدامة. وحين جلست مع الفريق، لمحت في حديثهم ما يتجاوز الحماس العابر إلى ما يشبه الإيمان العميق بالرسالة. كانوا يتحدثون عن المستقبل كما لو كان حاضرًا ملموسًا، ويخططون للمؤسسات الأخرى كما لو كانت امتدادًا طبيعيًا لبيتهم. تلك هي ريادة الأعمال في أنقى صورها: أن ترى المستقبل قبل أن يراه الآخرون، وأن تؤمن أن مشروعك ليس لك وحدك بل هو للأمة جمعاء.
الاستشارات عندهم لم تكن مجرد تقارير تُكتب، بل كانت مسارات تُفتح. الدراسات لم تكن جداول جامدة، بل قراءات عميقة تلتقط ما لا يراه الآخرون. القدرات لم تكن عناوين لورش تدريب، بل بناء ممنهج للإنسان والمؤسسة معًا. أما المبادرات، فكانت الروح التي تُبقي كل شيء حيًا، تدفعه إلى الحركة، وتعيد ضخ الدماء في العروق كلما أوشكت على الركود.
رأيت في هذه المؤسسة صورة لما يجب أن تكون عليه نهضتنا المعاصرة: بيت خبرة متكامل، لا يُغريه البريق المؤقت، بل يشيد بنيانًا راسخًا يتجاوز الحاضر إلى المستقبل. إنّ المؤسسات في عالم اليوم لا تُقاس بكبر حجمها أو كثرة موظفيها، بل بقدرتها على أن تكون رافعة لغيرها، مصدرًا للإلهام، وحاضنة للمعرفة، وبيتًا تنبعث منه الثقة.
تأملت في وجوه الشباب القائمين عليها، فوجدت فيها شيئًا من ملامح الأوائل الذين كتبوا تاريخ الأمة: أولئك الذين جمعوا بين الفكر والعمل، بين الحلم والواقع. وتذكرت قول الإمام علي رضي الله عنه: “قيمة كل امرئ ما يحسن”، فقلت في نفسي: هذه المؤسسة تعرف ما تحسن، وتصرّ أن تحسنه بأعلى درجات الجودة.
لقد كان السرد الروائي للسيرة المؤسسية هنا مدهشًا بحق. فأنت لا تدخل إلى جدران، بل إلى قصة تتفتح أمامك فصلًا فصلًا. البداية كانت فكرة مشتعلة في عقول مؤمنين بضرورة التغيير. ثم جاءت مرحلة الدراسات لتُعطي الفكرة جناحين، تضع لها إطارًا علميًا ورؤية واضحة. ومع الاستشارات، وُضعت الأقدام على الطريق، وأُعطيت المؤسسات الأخرى بوصلة ترشدها وسط الضباب. ثم جاءت القدرات لتقول إن الفكرة من دون إنسان قادر ليست إلا حبرًا على ورق. وأخيرًا، حين بدت الحاجة إلى الروح، ظهرت المبادرات لتُشعل الحماسة وتبقي المؤسسة في حركة لا تهدأ.
أربع تاءات، لكنها ليست أربعة خطوط متوازية لا تلتقي. بل هي أشبه بأربع أنهار تلتقي جميعها في بحر واحد، فإذا ارتوت به الأرض أزهرت، وإذا جفت تعثرت الخطوات. ومن هنا كان جمالها: التكامل الذي لا يُلغى فيه أحد، والتنوع الذي لا ينفصل عن الوحدة.
ربما يسأل سائل: ما الذي يجعل هذه المؤسسة مختلفة عن غيرها فأجيب: لأنها لم تبدأ من سؤال “ماذا نفعل؟” بل من سؤال “كيف نخدم؟”. لأنها لم تحصر نفسها في دائرة الربح والخسارة، بل وسّعت رؤيتها لتكون رافعة لمؤسسات، وبيت خبرة لأجيال، ومبادرة تستنبت الخير حيثما زرعت.
ولأنني زرت أماكن كثيرة، وحضرت عروضًا لا تنتهي، أستطيع القول بطمأنينة: إن هذه الزيارة لم يشهدها التاريخ في معناها ووقعها. فالتاريخ لا يُكتب بالسنوات وحدها، بل باللحظات التي تصنع فارقًا، وبالأفكار التي تضع حجر الأساس لعالم جديد.
هنا، في هذه المؤسسة الصاعدة، شعرت أنني أمام مشروع يتجاوز اللحظة إلى الأفق، أمام بيت يشيّد على أربعة أركان متينة، أمام بوصلة تشير دومًا إلى الشمال الصحيح، وأمام قلوب مؤمنة بأن الاستدامة ليست شعارًا يُرفع، بل روحًا تُعاش.
ولعل أجمل ما يمكن أن أختم به هو ما قاله مالك بن نبي: “إن مشكلتنا ليست في نقص الموارد، بل في نقص الأفكار”. وهذه المؤسسة هي برهان حي على أن الأفكار إذا صيغت برؤية، وتكاملت بأركان، وامتزجت بالقيم، تحولت إلى قوة نهضوية تصنع المستحيل.
فلم تكن زيارتي مجرد مرور على مكاتب، بل كانت دخولًا إلى بيت خبراء يولد من رحم الحلم، يسير بخطى ثابتة، ويرفع راية الريادة، ويُعلن أن أربع تاءات إذا تكاملت، فإنها لا تصنع مؤسسة فحسب، بل تؤسس لعصر جديد من النهضة المؤسسية.




أحدث التعليقات