الإيجابية المستدامة !

الإيجابية المستدامة

قالت لي سيدة فاضلة أعتز بمكانتها ورقي تعبيرها؛ ” أراك تجيّر الأشياء لتربطها بالاستدامة”، قلت بالفعل لأني أفهم الاستدامة “قناعة وثقافة وممارسة” كما تعلمت ذلك من أساتذتي، إنها نظارتي التي أستكشف الأشياء من منظورها، ولأن هذه النظارة فيها طبقات “Layers” تتمثل في أهدافها وغاياتها ومقاصدها ومؤشراتها كذلك من بين طبقاتها سياقي الحضاري وثقافتي الاجتماعية لذلك أدّعي الوضوح في كثير مما أراه وأتعاطاه.

من بين هذه المعاني فكرة “الإيجابية المستدامة” ففي كبد هذا الوجود المتلاطم، حيث تتداعى الأمواج وتتعاظم التحديات، يبرز مفهوم “الإيجابية” ليس كترف فكري أو مجرد شعور عابر، بل كقوة دافعة لإعادة تشكيل الواقع وهندسة المسار للحائرين أفراداً ومنظومات، إنها ليست دعوة إلى إنكار الحقائق أو التغاضي عن العثرات والمخاطر، لكنها إشراقة روح تشربت ألوان العزم والأمل، وتجسّدت فيها مرونة الإنسان وقدرته الفائقة على التكيف والنمو.

ولعلنا هنا لا نتحدث عن إيجابية طارئة، أو تلك التي تتبدد مع أول ريح عاتية، بل عن إيجابية “مستدامة”. فكما نسعى جاهدين لتحقيق الاستدامة البيئية والاقتصادية والاجتماعية لضمان مستقبل مزدهر للأجيال القادمة، كذلك يجب أن تشرب روح الاستدامة في وعينا الجمعي والفردي تجاه “الإيجابية” فهي ليست مجرد ومضة لحظية، إنما نبع يتدفق تفاؤلاً ومرونة يغذيه الوعي والامتنان والتأمل.

إن التحكم بقوة الإيجابية يعني أولاً وقبل كل شيء إدراك أن الإيجابية خيار لا قدر، وقرار يقضي بالتركيز على الحلول بدل لانغماس في المشاكل، وهي كذلك بحثٌ عن الفرص الكامنة في كل تحدٍ لا الانزلاق نحو هاوية اليأس، هذا التوجه الذهني يمثل جذور الاستدامة وبذورها الحقيقية، فكل فكرة إيجابية تُغرس في أرض الوعي الخصب تُثمر رُشداً في السلوكيات والعلاقات، وقدرة على الصمود في وجه الأعاصير والتحديات.

إن الإيجابية المستدامة تتجسد في قدرتنا على تجديد طاقتنا الروحية والنفسية، فتمامًا كما تستنزف الموارد الطبيعية إذا لم يتم تدبيرها بحكمة، كذلك تستنزف طاقة الإنسان الإيجابية إذا لم يتغذى العقل بالاتزان، والقلب بالرضا والامتنان، والروح بالسلام والاطمئنان.. وكأننا نحدث نظاماً يصنع من بيئتنا الداخلية اتزاناً يُعيد “تدوير” الأفكار السلبية وتحويلها إلى دروس مستفادة، ويزرع بذور الأمل والتفاؤل كي نحصد إنتاجاً وإنجازاً بأقل المنغصات والمكدرات.

إن انعكاس الإيجابية المستدامة لا يقتصر على الصعيد الفردي وحسب، بل يمتد ليشمل النسيج المجتمعي بأسره فالمجتمعات التي تُقدّر الإيجابية كمورد لا ينضب، وتُرسخ ثقافة التكامل والتآزر، هي مجتمعات أكثر قدرة على مواجهة الأزمات، وأكثر مرونة في التكيف مع المتغيرات، وأكثر إبداعًا في ابتكار الحلول المستدامة عند التحديات، لأنها تمكنت من احتضان الشعور الإيجابي وكذلك الفعل الإيجابي وبذلك تنامت طاقةً وثقةً حين تخلصت من الإفراط في التفكير أو سعت للتنفيس عن الغضب المكتوم أو التأثر بالمحبّطين، وهذا ما جعل أغلب من شارك في استطلاع للرأي نشرته مجلة النشرة النفسية ( ٢٧٥ ألف) شخص نسبوا نجاحهم إلى قوة الإيجابية فيهم.

لذا، فليكن سعينا نحو إتقان مهارات” قوة الإيجابية” ليس مجرد مسعى فردي للراحة النفسية، بل مشروعًا وجوديًا ذا أبعاد مستدامة. مشروعًا يُعلِّمنا أن نكون قُوّى تغيير إيجابية، ليس فقط لأنفسنا، بل للمجتمع وللأجيال القادمة. أن نبني حصونًا من الأمل في وجه اليأس، وأن نغرس بذور التفاؤل في كل أرضٍ قاحلة، وأن نحقق بذلك إيجابية لا تنضب، بل تتجدد وتنمو، لتظل شذرات تُضيء دروبنا وتشعل جذوة الأمل لمستقبل أجمل.

Scroll to Top